يبحث الرومانسيون فى عالم المساء عن قمر ونجوم محاولين اختراق ظلال الصمت للوصول إلى جوهر المعنى الكامن فى الطبيعة ، وينعكس هذا فى أبدعاتهم
فالليل عند الشعراء الرومانسيين يشغل مساحة التجربة الإنسانية ، لكنه لا يمنع ظهور النهار ، فعلى الإنسان أن يرى هذا النور، ولا يقف فى فضاء الظلام ليشكو آلامه واغترابه فقط .
لكن لماذا اختار الرومانسيون المساء ؟ فالمساء عند الرومانسيين يناسب العالم الداخلى المغلق الذى تعيش فيه الذات
فالرحلة الرومانسية تنطلق من داخل النفس وتتخذ من المساء معادلاً موضوعياً له دلالة رمزية من فضاء الطبيعة .
فكأن الليل يحمل لهم شيئاً من العزاء ومن خلاله يتحملون الحياة المادية التى لا يطيقونها ، يقول إبراهيم ناجى :
كأن صدر الزمان ضاق
من كثرة البث كل حين
يا ويحه كيف قد أطاق
شكوى البرايا على السنين
فناجى يشخص الليل الرومانسى كأنه كائناً يسمع ويتحمل وله قلب قد ضاق من شكوى البشر وما زال يستمع ويتحمل، فقد شخص الليل كأنه صدر .. قلب .. فهو يصور الليل شخصاً مدركاً للألم ، يستقبل آلام الآ خرين رغم معاناته الشخصية وهذا نوع من توحد الشاعر الرومانسى المدرك لمعنى الألم والليل مع الطبيعة.
وتصل الصورة التشخيصية لليل عند ناجى لأعلى مؤشر رومانسى لها فى الشعر العربى .
يا أيها الليل جئت أبكى
وجئت أسلو وجئت أنسى
فلقد أصبح الليل للشاعر هو المثل الأعلى يناديه ويرسل إليه الشكوى ويلتمس عنده المشاركة والتعاطف الذى فقدهم عند البشر.
وعندما يلتقى الشاعر بحبيبته فإن الليل هو الفضاء الحانى والصديق :
وانتبهنا عندما زال الرحيق
وأفقنا ليت أنا لا نفيق
يقظة طاحت بأحلام الكرى
وتولى الليل والليل صديق
فالشاعر مضطر أن يعيش الواقع ويحيا الحياة المادية بكل قسوتها ، وآلامها وحرمانها .. لكنه يجد فى الليل السكن حيث تشع روحه ابداعاتها ... بعيداً عن صراعات الحياة النهارية الممتلئة بالحركة والسعى وراء المادة .
ولا أظن أن الرومانسيين فقط هم الذين يجدون فى الليل السكينة والسلام النفسى فقد أشار القرآن الكريم فى أكثر من آية لكون الليل سكناً حيث قال تعالى :-
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً )المزمل ( ) ( 1- 7 ) فالله سبحانه وتعالى يدعو رسوله ( ) لقيام الليل .. والصلاة فيه ، وهل تختلف صلاة الليل عن صلاة النهار ... حقاً فالليل تخلو فيه النفس مع ذاتها ... تتأمل حياتها ... يبحر الإنسان فى أعماق ذاته . يفهمها يكتشف أسرارها .. يتصالح معها بعيداً عن صخب الحياة النهارية ... فالله سبحانه وتعالى يأمر الرسول ( ) بأن يتقوى ويتزود من ليله ،يعطى روحه زادها لتتحمل عناء النهار .. وكأن النفس تثقلها المادية ويكون الليل هو السكن هو الصدر الحانى الذى يمنحها القوة لتواصل حياتها مجدداً وكما قال تعالى (وجعلنا الليل لباسا) .